الجزء السابع عشر: قتل الزناتي خليفة
( قال الراوي ):
فلما فرغ دياب من كلامه وامه تسمع نظامه، فرحت وقالت يا غانم مرادنا نسير لان بني هلال في انتظارنا، فقال تأهبوا حتى نسير ونعلم بني هلال ان دياب يحضر يوم الأحد لعندهم، فركبوا وساروا حتى وصلوا الى بني هلال، فكانت ضجة قوية، فقالوا أين دياب؟ فقال غانم نهار الأحد يكون عندكم. أما دياب بعد ذهاب والديه أمر الرعيان بلم البوش من كل جانب ومكان وساروا قدامه طالبين بني هلال بابطاله وفرسانه الذين معه، ثم قلعوا الصيوان وأمر العكام بأن يسبقه وينصب سيفه على أبواب تونس في نصف الميدان، ثم دق طبوله ونشر اعلامه حتى بقي بينه وبين بني هلال يوم كامل، وكانوا جميعهم في انتظاره، وثاني يوم الأحد خرجت الاربع تسعينات الوف واستقبلوه بالطبول والنوبات وزالت الهموم والاتراح بقدوم دياب وادخلوه الى الحي بنوبة سلطانية عظيمة، وأما أهل القتلى فانهم اجتمعوا على التراب وهم في السواد واثواب الحداد، لكي يشكو الى دياب ما فعل الزناتي بهم، وأما حسن و أبو زيد فبقيا في الصيوان وما خرجا من الخيام، وأما دياب لما لم يجد حسن وأبا زيد، عرف المضمون وانما أخمد الكمد وأظهر الصبر والجلد، ولم يزل سائرا في الموكب العظيم حتى وصل الى تونس، فرجت منه الأرض وطلعت النساء على الأسوار للفرجة على الزينة، وارتعد الزناتي خليفة ومن عنده وقال الله يعيننا على حربه، واما دياب فرفع رأسه الى سور تونس، فوجد رؤوس الامراء وهم ثمانون رأسا مشكوكين على الرماح، فسألأ من هؤلاء؟ فقال له عمه عرندس هؤلاء رؤوس بني هلال الذي قتلهم الزناتي وهم اولاد عمك، فقال كل هذا يجري في غيابي؟ وظل سائرا الى التربة، فتقدم اهل القتلى والبنات وشالوا البراقع وحدفوها الى دياب فطيب خاطرهم وخاطر فتنة بنت خاله.
وسار مع الموكب حتى دخل البيوت، فمر على صيوان الامير حسن وابي زيد، فوجدهما يتفرجان، فدخل وسلم عليهما فقام له على الاقدام واكرماه غاية الاكرام، وبعدها قام دياب وركب الى بيته وتفرق كل واحد الى محله، واما فتنة فصارت تخبر اباها بما حدث.
فلما فرغت فتنة من كلامها وابوها يسمع نظامها، قال مرادنا احد يروح لعند دياب يروي لنا الخبر عن حربه للزناتي، فقامت داية الحريم وقالت انا اكشف لك عن ذلك وسارت للصيوان، واما وصلت اليه وجدته يلاعب بنتا صغيرة اسمها نجيبة، ويقول لها اين اطعن الزناتي؟ فقالت له اطعنه بعينه؟؟ فقال قولك مبارك، وحياتك ما اطعنه الا بعينه، فرجعت الداية الى عند الامير حسن واخبرته عما رات من دياب ثم افتكر واطرق رأسه الى الارض ساعة من الزمان ثم تنهد وانشد يقول:
يقول الفتى حسن الهلالي ابو علي
الاجواد تختبي ليوم النوائب
وما سندنا الا دياب ابن غانم
لانه صميدع من خيار القرائب
ونرجو من الرحمن يفرج همنا
لان العرب ذاقوا اعظم المصائب
عسى من الزغبي يجينا غاية
ويقتل خليفة بين جمع المواكب
دياب امير وابن امير وامير
ولا مثله في شرقها والمغارب
قال الفتى حسن الهلالي ابو علي
وقلبي فرح في ملتقى الحبايب
فلما فرغ حسن من كلامه وأمرأته تسمع نظامه، واسمها نافلة وهي أخت دياب، لحظت على حسن انه داخله الحسد من اخيها، فعند ذلك اشارت تقول:
مقالة التي قد نالت رجاها
ودمع عيني فوق خدي سجايم
سعدنا في بني زغبة دياب
شبيه البحر موجه جا يلاطم
فلما أقبلت خيلها علينا
ففرحت البيض داقات الوشايم
طبوله حوله يا أمير تنضرب
شبيه الرعد بوسط الجو قايم
وخافوا الأعادي حين شافوا
بني زغبي وهم نسل الأكارم
وقد قال الزناتي لأهل تونس
يصيروا أهلها لنا خدايم
قالت التي قد نالت رجاءها
نصرك يا حسن في ابن غانم
فلما فرغت من كلامها قال لها يا نافلة عسى الأمير دياب يقتل الزناتي ونملك تونس ونخلص بلادنا، هذا ما جرى للأمـير حسن ونافلة، فيرجع الكـلام لدياب، فانه قال لقومه في الصباح احضروا جميعكم، قالوا سمعا وطاعة، ولما أصبح الصباح نهض الأمير دياب وطلب مبارزة الفرسان ولاعب الخضرا في أربعة أركان الميدان، وسال وجال ولعب بالرمح حتى حير عقول الشيوخ والشباب، ثم تقدم الى أبواب تونس ودقها في عكاز الرمح فارتج السور، فقال البواب من؟ فقال: أنا دياب.
أعلم سيدك الزناتي يخرج لحربي لكي يوفي الناس ديونها وان سألك عني فقل له دياب قاتل أخويك أبو خريبة ومكحول، فابرز اليه وخذ بالثأر، فمضى البواب وأعلم الزناتي فضاقت في وجهه الدنيا، وما عاد يعي على حاله، فأرسل أحضر ابنته سعدى وقال لها: يا باغية ما أحد جلب لنا البلاء سواك، فلو كان من ألول تركتني أقتل المحابيس وابا زيد، كنا ارتحنا من بني هلال، لا أخاف الا من دياب، فقالت سعدى: يا أبي لاتخف منه أنا أرده عنك، ثم مشت على شراريف القصر فرأت دياب يلاعب الخضرا، فنظر اليها وكف وجهه عنها لحسنها، ما اسمك وما تريدين؟؟
قالت: أنا سعدى وأنت ما تريد؟؟ فأنشد وأنشدت بدورها ثم رد عليها دياب.
( قال الراوي ):
فلما فرغ الأمير دياب من كلامه، قالت له سعدى: قف عندك حتى أرسل لك ابي، وعادت لأبيها تحثه على حربه فركب الجواد وبـرز الى المـيدان، وأنشد:
اليوم يومك يا زناتي خليفة
فلا بد من سيفي تروح شلال
قال الفتى زغبي ابن غانم
حل الوفا واشتقت أنا للمال
فلما فرغ الأمير دياب من الكلام، والزناتي يسمع نظامه، فارتطم البطلان كأنهما جبلان، وتصادما صدام الأبطال وضربت في حربهما الأمثال وقلق الزناتي من حرب دياب ورأى منه أبوابا ما كانت تخطر له بحساب، رآه بحرا ما له قرار، وما زالا في الحرب والطعان وهما في أشد ضيق الى نصف النهار، فزاد الأمير دياب على الزناتي بحربه وعاد يفتل حوله على الخضرا مثل الصاعقة، فخاف الزناتي وانحل عزمه وولى من قدام دياب هاربا الى تونس، ودياب لاحقه مثل الأسد الكرار، فهجم دياب وعسكره على قوم الزناتي والتقت الرجال بالرجال وجرى الدم وسال فيا لها من وقعة تشيب رؤوس الأطفال، وذهب من الفريقين عدد كبير من الفرسان والشجعان، وكان لتونس ثلاثة أبواب داخلة في بعضها، باب( صارة ) وباب( منصور ) وباب( حسرة )، ففتحوا الأبواب حتى دخل الزناتي وسكروها، فضرب دياب الباب بالرمح فخرقه، فأطبقت قوم الزناتي على قوم دياب، فالتقاهم بسيفه القرضاب وهجم بنو زغبة وعظمت الأهوال وبطل القيل والقال الى أن ولت الشمس للغياب، ودقت طبول الانفصال فاختبأ قوم الزناتي من خارج السور ورجع الأمير دياب وقومه الى بني هلال، فهنأوه بالسلامة وأكلوا وشربوا وحضر الأمير حسن والأمير أبو زيد لعند دياب وعانقاه وهنأاه بالسلامة وجلسا معه للمنادمة والكلام، وأمر دياب في الذبائح وعمل الولائم فسألوه عن حرب الزناتي، فتبسم من قولهم وقال: أنا أكفيكم شره وأقصر عمره، فقالوا يا دياب غدا اقتل الزناتي وملكنا الغرب كما ملكتنا الشرق، فقال ان أراد الله تعالى، ولكن يا حسن الذي يقتل الزناتي يكون سلطان الغرب فقال الأمير حسن نحن أولاد عم وبين الأهل ما في فرق والرزق واحد والحكم واحد، ثم انصرفوا الى حالهم ولما أصبح الصباح برز دياب الى الميدان، فبرز الزناتي وانطبقا على بعضهما انطباق الغمام وطال بينهما الطعن والصدام، من شروق الشمس الى وقت الظلام، فدقت طبول الانفصال وانفصلا عن القتال، أما الزناتي فعاد في أسوأ حال وأيقن بالهلاك، فضاق صدره واحتار بأمره، فطلع الى قصره وارتمى على فراشه، ثم فتح شباك القصر ونادى ابنته سعدى فأتت وجلست مقابله في شباك آخر، فتنهد الزناتي وصار يعاتب سعدى.
فلما فرغ الزناتي من كلامه، قالت له سعدى يا أبي اني لم أنم الليل من أجلك، ودائما أطلب من الله أن ينصرك وينيلك مرامك وأنا أنثى لم أتعود على القتال والكفاح ومبارزة الأبطال، ثم أنها انصرفت والهوى غالب عليها، ولما أصبح الصباح طلعت بنو هلال من خيامها وركبت سوابقها، وأما الزناتي فأغلق أبواب تونس وما عاد يفتح ولا عاد له قلب للخروج الى الميدان لخوفه من الأمير ديبا الذي قام من نومه وتقلد سلاحه وركب الخضرا وبرز الى الميدان، فحين نظره الزناتي هانت المنية عليه، فبرز لدياب فصدمه صدمة الجبار، وهاج الزناتي كالجمل فتلقاه دياب بالسيف وطار فيما بينهما الغبار حتى سد منافس الأقطار وحجب عنان السماء الى الظلام، دقت طبول الانفصال وافترقا على سلامة، واستقاما على هذا الحال مدة شهرين، وفي آخر الأيام برز الاثنان الى الميدان، فغضب دياب وزاد به الغضب وضرب الزناتي بالسيف فأصاب جواده، فرمى نفسه على الأرض وقد أيقن بذهاب الروح، فأدركه قومه في جواد من الخيل، وأركبوه ومال عليهم دياب بالسيف القرضاب، وزاد نار الحرب التهاب وقطعت منهم الزنود والرقاب، وساقهم دياب سوق الغنم ودخلوا المدينة وسكروا أبوابها، فطلع الزناتي الى قصره فنام على فراشه وهو غارق في الأفكار لنصف الليل، فقام مرعوبا ونادى ابنته سعدى فأتت، ولما شاهدت حاله بكت وندمت، وصارت تشجع والدها على حرب دياب، وثاني الأيام برز الى الميدان فبرز اليه الأمير دياب، ثم التقى البطلان وكأنهما أسدان وما زالا في حرب وصدام الى وقت الظلام، دقت طبول الانفصال وثاني الأيام برز الاثنان الى الميدان. ولم يزالا في حرب وصدام الى وقت الظلام، فدقت طبول الانفصال، وثاني الأيام برز البطلان.
وأخذا في الحرب والصدام حتى أقبل الظلام، فدقت طبول الانفصال وثاني يوم برز دياب الى الميدان وطلب مبارزة الفرسان، فبرز اليه الزناتي وصار يقول:
يقول الزناتي أفرس الفرسان
في القلب مني زايدة نيراني
بليت فيكم يا هلال بلية
ربي بكم دون الملا أبلاني
قتلت منكم قوم ما لهم عدد
راحوا طعام الوحش والغربان
صافف رؤوس رجالكم أنظرها
على السور منشورة وفي الصيوان
انا خليفة يا دياب تحضر
يا ما قهرت ابطال مع شجعان
انزل عن الخضرا وبوس ركابي
واسلم بروحك لا تكون ندمان
فلما فرغ الزناتي من كلامه التقى البطلان في الحرب والصدام، فبقيا في قتال شديد حتى ولى النهار وأقبل الليل بالاعتكار، ودقت طبول الانفصال ورجع كل منهما الى قومه، وقد ذل الزناتي بعد عز، وبكى على أحواله وملكه، وبات تلك الليلة في هم وأتراح الى الصباح، كتب كتابا يطب فيه الصلح وأرسله الى دياب، وكان دياب قد برز الى الميدان، فلما وصل الرسول أعطاه الكتاب ففضه وقرأه وعرف رموزه ومعناه، فتوجه لعند السلطان حسن وعرض عليه كتاب الزناتي، فقرأه أبو زيد على الأمارة، فبهتوا جميعا مقدار ساعة، فقال أبو زيد ماذا تقولون؟ فقالوا الرأي عندك يا أبا زيد.
فقال أبو زيد: الرأي انكم تصالحوه، ومن أبا عن الصلح يسأل الجازية فالتفتت اليهم وقالت: أذل الله لحاكم يا بني العربان ذليتم عن حرب الزناتي ودياب أيضا ذل معكم وهو شاطر في ركوب الخضرا وتعريض الصدر، وحالا نادت النسوان وقالت دونكن والخيل، فنحن نقهر الزناتي ونأخذ ثأرنا والتفتت الى دياب، وقالت له: انزل عن الخضرا حتى أركبها واقاتل ازناتي وأنشدت تقول:
تقول فتاة الحي أم محمد
أنا أورد خليفة أقصى الموارد
أنا بنت سرحان الأمير بلا خفا
أخي حسن سلطان على القوم سايد
ألا بأعذاري شدوا الخيل واركبوا
على سوابق أصيلات فرايد
ونلبس خوذهم والدروع وخيلهم
ونحن نحارب في اللقا والمطارد
فلما فرغت الجازية من كلامها والأمراء يسمعون نظامها، فعند ذلك تبادرت البنات الى الخيل، وكل واحدة مسكت لجام فرس وقالت لراكبها انزل واركب موضعي في الهودج وأنا أركب جوادك، وأما الجازية فقالت الى دياب انزل وأنا أركب موضعك وأحارب، فغضب دياب وقال لها: كم مرة خلصتك من السبي، ولو صالحه كل بني هلال ما أفوت ثار أخوتي وأولادهم، ولا صالحت خليفة، فارجعي الى الوراء وردي البنات واتركي الحرب للرجال، ثم أنه رد على الخليفة وقال:
يقول الفتى الزغبي ولد غانم
وذم الفتى بعد الكمال حرام
وحمد الفتى بعد القبيح مذمة
وحمد الفتى بعد النضال لزام
أنا دوم ممدوح بفعل أكارم
بخير وجود بالفلا وخصام
كم فارس أنا بقناتي قتلته
وادعيته ضمن التراب عدام
فلا بد ما أملك بلادك كلها
وقومك يصيروا عندنا خدام