الكعبة المباركة التي زادها الله شرفاً وتعظيماً، لها أعظم الأثر عند جميع المسلمين تاريخاً وعقيدة، فهي أول بيت وضع للناس ومن دخله كان آمنا.
والكسوة الشريفة، من أهم مظاهر التبجيل والتشريف لبيت الله الحرام، ويرتبط تاريخ الكسوة بتاريخ الكعبة نفسها، وتذهب بعض المصادر التاريخية إلى أن "إسماعيل بن إبراهيم" عليهما السلام، قد كسا الكعبة، ويذهب البعض إلى أن "عدنان" الجد الأعلى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو أول من كساها.
غير أنه من الثابت تاريخياً أن أول من كساها هو " تبع أبي كرب أسعد" ملك حمير، حين مر عليها آيباً من غزوته ليثرب سنة 220 قبل الهجرة، وقد كساها " الخصف" وتدرج في كسوتها حتى كساها "المعافير " وهي كسوة يمنية، كما كساها "الملاء" وهي كسوة لينة رقيقة وعمل لها باباً ومفتاحاً، ثم تبعه خلفاؤه من بعده فكانوا يكسونها "الوصايل" وهي أثواب حمر مخططة و"العصب" أثواب يمنية يعصب غزلها أي يجمع ويشد المصبوغ منه مع غير المصبوغ فيأتي موشى، و"المسوح" وهي كسوة من الشعر و "الأنطاع" وهي كسوة من الجلد.
بعد ذلك، أخذ الأمراء في تقديم الهدايا إليها من الكساوي المختلفة مثل: "مطارف الخز" الخضر والصفر، وهي أثواب من صوف أو شعر بعرض ذراع، و"شقاق الشعر" وهي كساو رقيقة طويلة، وأثواب حريرية تسمى "كرار الخز" و "النمار العراقية" وهي أثواب كانت تصنع للوسائد، و"الحبرات اليمنية" وهي أثواب مخططة، و"الأنماط"، وهي بُسط سميكة.
وكلما جاءت كسوة طرحت على سابقتها، إلى أن جاء عهد "قصي بن كلاب" ففرض على القبائل رفادة كسوتها سنوياً، واستمرت في بنيه.
ومازالت قريش تكسو الكعبة حتى كان زمن "أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي" وكان من الأثرياء، فقال لسُراة قريش: أنا أكسو الكعبة وحدي سنة، وجميع قريش سنة، فوافقت قريش على رأيه وأطلقت عليه: " العدل"، لأنه عدل يفعله قريشاً كلها.
وأول امرأة كستها في الجاهلية هي: "نبيلة بنت حباب" أم العباس بن عبدالمطلب، كستها الحرير والديباج، وسبب ذلك أنها ضلت ولدها "ضرار" فنذرت إن وجدته لتكسون الكعبة، وتحقق رجاؤها فوفت بنذرها. ولم يتح المشركون للرسول ومن معه كسوة الكعبة إلا بعد فتح مكة، فأبقى صلى الله عليه وسلم على كسوتها ولم يستبدلها إلى أن احترقت بسبب امرأة كانت تريد تبخيرها، فكساها الرسول وأبو بكر الصديق بالثياب اليمنية، ثم كساها عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما "القباطي المصرية" وهي أثواب بيضاء رقيقة كانت تصنع في مصر.
وفي عهد معاوية، جعل لها كسوتين: الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في التاسع والعشرين من رمضان، واستمر هذا النظام حتى سنة 160 هـ، عندما حج الخليفة المهدي العباسي فذكر له سدنتها أن كساوي الكعبة قد كثرت وأنهم يخشون على البناء الضعيف من ثقلها، فأمر بأن تجرد منها وألا يسدل عليها إلا الكسوة الجديدة فقط.
أما الخليفة المأمون فكان يكسوها ثلاث مرات في السنة: فيكسوها القباطي في غرة شهر رجب، والديباج الأبيض في السابع والعشرين من رمضان والديباج الأحمر في يوم التروية.
وفي معرض حديثه عن مدينة "تنيس" المصرية شمال دمياط يقول المؤرخ العلامة "المقريزي" في خططه: "كانت من المدن الجليلة تعمل بها الثياب السرية وتصنع بها كسوة الكعبة، قال الفاكهي في كتابه أخبار مكة: ورأيت كسوة مما يلي الركن الغربي من الكعبة مكتوباً عليها مما أمر به السري بن الحكم وعبدالعزيز بن الوزير الجروي سنة سبع وتسعين ومائة، ورأيت شقة من قباطي مصر في وسطها، إلا أنهم كتبوا في أركان البيت بخط دقيق أسود: مما أمر به أمير المؤمنين المأمون سنة ست ومائتين، ورأيت كسوة من كسا المهدي مكتوباً عليها: بسم الله بركة من الله لعبد الله المهدي محمد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مما أمر به إسماعيل بن إبراهيم أن يصنع في طراز تنيس على يد الحكم بن عبيدة سنة اثنتين وستين ومائة".
كذلك كانت تصنع الكسوة في قرية "تونة" من أعمال تنيس، فيقول الفاكهي: "ورأيت أيضاً كسوة لهارون الرشيد من قباطي مصر مكتوبا عليها: بسم الله بركة من الله للخليفة الرشيد عبد الله هارون أمير المؤمنين أكرمه الله مما أمر به الفضل بن الربيع أن يعمل في طراز تونة سنة تسعين ومائة".
وبعد انقضاء عهد الدولة العباسية، كساها سلطان مصر " الظاهر بيبرس ركن الدين البندقداري" سنة 658 هـ، ثم كساها بعده الملك المظفر حاكم اليمن سنة 659 هـ واستمر يكسوها بالتعاقب مع سلاطين مصر إلى أن انفردوا بهذا الأمر وحدهم.
في عام 751 هـ، أوقف الملك الصالح عماد الدين إسماعيلى بن السلطان الناصر محمد بن قلاوون قريتي "باسوس" و"سندبيس" من أعمال القليوبية، وقفاً خاصاً لكسوة الكعبة مرة في السنة، وكسوة داخلية حمراء وأخرى خضراء للحجرة النبوية مرة كل خمس سنوات.
ولما تولى محمد علي باشا عرش مصر، حل ذلك الوقف، وأصبحت الكسوة الخارجية تصنع على نفقة الحكومة المصرية، واختص سلاطين آل عثمان بكسوة الكعبة الداخلية، وكسوة الحجرة النبوية.
وبأمر عال من محمد علي باشا خصص مقر لصناعة الكسوة الشريفة، أطلق عليه: "مصلحة الكسوة الشريفة" في حارة السفاري بحي الخرنفش بالقاهرة.
وعند إتمام عمل الكسوة، كان يقام لها احتفال مشهود في شهر شوال- كما أشار مؤرخنا الجبرتي- بحضور الباشا أو نائبه، فيسيرون بها في موكب عظيم يشقون به من القلعة إلى مسجد مولانا الإمام الحسين، إلى أن يحين موعد خروج المحمل وقافلة الحجيج إلى مكة المكرمة، وعندما تحدث علي باشا مبارك في خططه عن "المشهد الحسيني" قال: "وفي شهر شوال تحمل إليه كسوة الكعبة الشريفة بموكب، فتخاط فيه، وتحمل منه بموكب، إلى غير ذلك من العوائد الجليلة".
البتنوني في معية الخديوي!
ويقول "محمد لبيب البتنوني" الذي صحب خديوي مصر "عباس حلمي الثاني" في رحلة حجه إلى الأراضي المقدسة، والتي بدأت في 29 ذي القعدة 1327 هـ/ 12 ديسمبر 1909: "ذهب بعض المؤرخين إلى أن المحمل يبتدئ تاريخه من سنة 645 هـ، وقيل إنه الهودج الذي ركبت فيه شجرة الدر ملكه مصر في حجها في هذه السنة، وصار بعدها يسير سنوياً أمام قافلة الحج وليس فيه من أحد: لأن مكان الملوك لايجلس فيه غيرهم".
وأضاف البتنوني: "ويعمل للمحمل يوم خروجه من مصر احتفال كبير من أيام الدولة الأيوبية، وهذا الاحتفال الآن له يوم مشهود بالقاهرة، تمشي فيه الجنود الراكبة والبيادة (المشاة) وحرس المحمل وركبه وخدمته من ضويه وعكامة، يتقدمهم أمير الحج الذي يعينه الجناب العالي الخديوي سنوياً، وهو من الباشوات العسكريين في الغالب، وبعد أن يدور المحمل دورته المعتادة في ميدان القلعة، يمرعلى المصطبة وهي المكان المعد لجلوس الجناب العالي الخديوي يوم الاحتفال، ومعه رجال حكومته السنية من الوزراء الفخام والعلماء الأعلام وكبار وذوات العاصمة، وهنالك يأتي حضرة مأمور الكسوة الشريفة وبيده زمام جمل المحمل، فيستلمه الجناب العالي منه ويسلمه إلى أمير الحج، وعندها تضرب المدافع ويسير الموكب يتقدمه أشاير السادة الصوفية ثم الجنود ثم جمل المحمل يتقدمه أمير الحج ويتلوه المحاملي والجمالة ثم الفرايحية "الطبالون" على جمالهم، ويستمر هذا الموكب سائراً إلى المحجر فالدرب الأحمر ويمر من بوابة المؤيد فالغورية فالنحاسين فباب النصر فالعباسية، وهناك يتفرق الموكب، وينزل ركب المحمل إلى خيامهم التي ضربت لهم في فضاء العباسية، وينصب المحمل في وسط ساحتها ليزوره من يريد التبرك به، حتى إذا كان يوم السفر إلى السويس، نقلوه مع أدواتهم وذخائرهم إلى وابور المحمل الذي يكون مهيأ في محطة العباسية، ويعد شحنه يسير إلى السويس، ومنها يبحر إلى جدة، ثم يقصد مكة برأ".
وعقب انتهاء مناسك الحج، ينتقل ركب المحمل إلى المدينة حيث مثوى الأعظم العطرات، ونتابع وصف البتنوني:
.