التفكير عبارة عن مستويات ، ولا احد يستطيع ان يعيش بدون تفكير ، التفكير هو إما توليد أفكار ، او فهم افكار ، او تطبيق افكار ، او ربط افكار ، او شرح افكار ، أو تحليل افكار ، او تركيب افكار ، او تقييم افكار ، وبالتالي فهناك تفكير كلي وشمولي ، وهناك تفكير جزئي أو آني أو مرحلي ، وكل العمليات هذه تجري على مستوى التفكير الجزئي او الكلي ، أو نسمّيه التفكير العام و التفكير الخاص ، من توليد افكار او ربط افكار ، او تحليل افكار ، الخ .
التفكير العام هو الذي تدور حوله الاسئلة الصعبة وهو الذي يمكن تسميته بالفلسفة ، لانها تبحث في الكليات اكثر من الجزئيات ، وهذا التفكير منزلقاته - اذا وجدت - تكون خطيرة ، والنجاح فيه يوصل الى الاهداف العليا للحياة حتى لو كان هناك اخطاء في التفكير الجزئي ، فإجادة التفكير الكلي والنجاح فيه ، رغم اخطاء او عدم دقة في التفكير الجزئي ، افضل من العكس ؛ كتفكير جزئي دقيق ومجوّد ، ولكنه على وجهة خاطئة ! هذا ما يقع فيه اكثر الناس ، خصوصا المُوجّهين منهم للمجتمع ، فدقة جزئية و فوضى كلية !
الدقة الجزئية تبهر الناس وتجعلهم يثقون ، و لكن لا يجدون ريح الغايات التي يسعون نحوها ، وانظر الى ضلالات الفلسفات والمذاهب حتى في داخل الاديان نفسها ، تعود لمشكلة التفكير الكلي ؛ حيث يـُربط الجزء بالكل وكل انسان يعرف علاقته بالاثنين ، و مدى قوته في احدهما ، و كلٌ ميسر لما خلق له .
كثير من اهل الثقافة والمعرفة والعلم يقود النقاش الى الجزء بينما صاحب التفكير الكلي دائما ينطلق من الجزء الى الكل ، والحقيقة ان كلاهما محتاج للآخر ومكمل له ، بل لا ينفع بدونه ، ومن هنا برزت فكرة الادوار الطبيعية ..
و في كل مجتمع تجد القليل من المفكرين الكليين ، و الكثير من المفكرين الجزئيين ، وخطأ هؤلاء يتضح عند هؤلاء ، و بين التفكير الجزئي و الكلي تناسب مطّرد ، أقصد نسبية ، فأصل الحياة هو مسألة تفكير كلي ، و يكون علم الاحياء تفكير جزئي مقابله ، وعلم الاحياء كلي مقابل علم الطفيليات ، وعلم الطفيليات كلي عند دراسة الدودة الكبدية مثلا ..
التفكير الكلي يحتاج الإحاطة بالاجزاء والإلمام بها ، لهذا عادة يكون الفيلسوف في مرحلة بعد مرحلة المثقف ، لان الفيلسوف يخرج من مجموع الجزئيات الى الكليات ، او يـُسقط الكليات على مجموع الجزئيات ، فكل مثقف متعلم وليس العكس ، و كل فيلسوف مثقف و ليس شرطا العكس ..
لاحظ الخلل الكبير في الكليات عندما يتولاها المتخصص في شيء معين ، مثل فلسفة علماء البيولوجيا والفيزياء ، فالعالم مكان ابداعه في تخصصه وليس في العموميات ، مثل تخبط هاريس وداوكينز وغيرهم . حتى بعض المتخصصين في الدين لا يمنعون انفسهم عن الكلام في كليات لا يعرفون جزئياتها ولا حتى إلماماً .. فالخروج من حزمة جزئية ضيقة الى الكليات دون اعتبار للاجزاء الاخرى سوف ينتج خللا في الوجهة العامة ؛ فتحديد موقع في مدينة يحتاج الى مخطط المدينة كاملا ، وربطه بالاتجاهات العامة على الارض (شمال جنوب شرق غرب) ، و كل هذا حتى نحدد موقعا واحدا ..!
العلاقة الفكرية مستمرة ما بين الخاص والعام ، بل لا نستطيع ان نفكر بدون هذا الديالكتيك .. اذن كل انسان عنده افكار عامة بالضرورة ، سواء كانت منه او من غيره ، و اذا كان تركيزه واعادة نظره و تقليبه و ابداعه في الجانب العام في التفكير ، كان فيلسوفا ، و ان كان العكس كان متخصصا او عالما ، مع التحفظ على الكلمة ؛ لانهم استعملوها لذوي الاهتمام الجزئي ، مع ان القرآن استعملها لذوي الاهتمام العام كقولهم : عالم في البكتيريا ، و البكتريا بالنسبة لغيرها جزء . و كلمة "علم" تشير الى المعرفة العامة التي مدحها القران : ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) ، مما يعني ان التفكير الكلي اهم من التفكير الجزئي ، و الوضع السليم هو ان نأتي من الكليات الى الجزئيات . لا نستطيع ان نعرف ما هي تلك الخطوط على ذلك الشيء الاحمر حتى نعرف انه مقعد في مجلس ، كمثال ..
الانسان اين يجد نفسه ، لا اين يريد ان يضع نفسه ، وبينهما فرق .. قال عليه الصلاة والسلام (اعملوا فكلٌ ميسر لما خلق له) ، و ليس أريح ولا اجمل ولا ابدع من ان نعرف ما فـُطرنا عليه ، لاننا حينها سنكون مبدعين وطاقاتنا لا تنتهي في ذلك المجال ، وهذا احسن من ان نعسف انفسنا على ما لا نحس انه لنا ، و كل شخص يستطيع ان يتبين هل هو قريب من مجاله ام بعيد ، بل إن من حوله يلاحظون براعته في ذلك المجال وهو لا يصدقهم لشدة السهولة التي ينطلق بها ..
انا لست اقمع او اقيد التفكير ، لكن انا مؤمن بالادوار الطبيعية ، و انه من غير المنطقي ان يكون الانسان قادراً على الاستغناء عن كل انسان ، حتى في المجال العقلي ..
ليس في الطبيعة عبث .. تخيل قافلة تسير : إن تحديد الطريق و الهدف ، هذا تفكير كلي ، و ليس في القافلة الا دليل واحد ، بينما فيها الكثير من ذوي الاهتمامات الجزئية ، كالحراس والمعالجين والطباخين والمساعدين والعمال... الخ ، لكن خطأ واحداً من الدليل قد يهلك القافلة كلها في عمق الصحراء ، و لا شك ان هذا الخطأ اكبر من خطأ الطباخ في وضع الملح في الطعام ، او الحارس في فقدان بعض الامتعة! و من هنا ندرك خطورة و اهمية من يتصدى للتفكير العام و أنها ليست مسألة تشريفية بقدر ما هي تكليف ومسؤولية ؛ فخطأ هذا الدليل ضيّع القافلة بكاملها ، اما خطأ اي واحد فيهم فهو اهون بكثير ، لان القافلة باقية ..
المشكلة ان اكثر مجال يتهاون به الجميع هو مجال التفكير العام ، بينما يجري تعظيم واحترام المجالات المتخصصة كما هو في الغرب وفي كل مكان ، مما يعني ان البشرية في طريقها الى هاوية ، لكثرة الأدلاّء واختلافهم ، ثم لاحظ ان ذلك الدليل لا يستطيع ان يقوم و يتقن ادوار الآخرين ، فهو محتاج لهم و هم محتاجون له..
فدليل القافلة يستطيع ان يعلـّم من كان يُحب و يجد اهتماما في داخله لان يكون دليلا مثله عندما يحترم هذه المهمة ، ولا يأخذها باللطش كما يفعل اكثر الناس ، فوجهة الحياة و اجزاء الحياة هي اخطر شيء في الحياة . قال تعالى {الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ، و كلما كان الانسان في مكانه المناسب كلما أتاح الفرصة لغيره ليتعلم منه .
الوجهة الصحيحة للحياة بكلياتها وجزئياتها ان تكون نحو الله ، وهذا هو الصراط المستقيم ، فاذا كنت متجها الى الله مباشرة ، فانت على الصراط المستقيم ، وان كنت ترى أنك متجه الى الله و لكن ليس مباشرة بل من خلال غيره ، فلن تكون على صراط مستقيم ، بل على الطريق العوج . والدليل أو الفيلسوف أو المفكر الحقيقي هو من يضع حياتنا جملة وتفصيلا على طريق الله مباشرة .