لقد نشأ نيوتن يتيم الأب فقد توفّي والده في نفس عام ولادته، وتربّى في عائلة ثرية ذات جذور زراعية، ومن الواضح أن طفولته لم تكن سعيدة حيث تزوّجت أمه ولم يبلغ العامين، وترعرع في كنف جدّه لأمه، ولم تكن علاقته بجدّه حميمة حيث لم يرد عن نيوتن في مستقبل حياته أيّ ذكر لجدّه.
أما دراسة نيوتن الأولى فلم تكن تقاريرها مشجّعة، وقد وصفته بعضها بأنه (كسول) و(غير مهتم)، ولذا أخرجته أمه من المدرسة لكي يشرف على إدارة ممتلكاتها، ولكنه سرعان ما أثبت فشله في ذلك المضمار، واجتمعت العائلة لترى مخرجاً مناسباً من ورطتها مع هذا الصبي (الكسول).
في ظلّ تلك الظروف لم يكن من خيار سوى عودة الفتى إلى المدرسة، ورأى خاله أن من الأفضل له أن يتهيأ للالتحاق بالجامعة، ولعل لتأثير خاله وإقامته في منزل مدير المدرسة دوراً في فتح شهية نيوتن للدراسة، ولذا فإنه تمكّن من الالتحاق بجامعة (كامبردج) في عام 1661م، وكان عمره حينئذ أكبر من أعمار زملائه في الدراسة.
كانت رغبة نيوتن هي الالتحاق بدراسة القانون، ولكن أعمال (جاليلي) في الفيزياء ونظرية (كوبرنيكس) الفلكية جذبت اهتمامه بشكل خاص، ولقد سجّل نيوتن أفكاره في تلك الفترة في دفتر سمّاه (أسئـلة فلسفية محدّدة)، وكتب في بداية الدفتر: (أفـلاطون صديقي، وأرسطو صديقي، ولكن أفضل أصدقائي هو الحقيقة)، وهكذا تتضح استقلالية تفكير نيوتن في مرحلة مبكّرة من حياته.
تشير الدلائل إلى أن دراسة نيوتن الجامعية لم تكن متميّزة، ولكنه استطاع أن يجتاز امتحاناته ويحصل على درجة البكالوريوس في عام 1665م، ومن الواضح أن عبقريته لم تبرز في تلك الآونة، ولكنها تدفّقت فجأة مع حدث أصاب بريطانيا، واضطرّ الجامعة إلى إغلاق أبوابها مما دفع بنيوتن إلى العودة إلى قريته ليمضي حوالي عامين من حياته كانت مزدحمة بمخاض علمي مؤذناً بميلاد فجر جديد على البشرية.
لقد ظهر وباء الطاعون في بريطانيا، وتعطّلت أنماط الحياة الاعتيادية، ولكن نيوتن، وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، جعل من تلك الفترة العصيبة مرحلة ذهبية في تطوير (الفكر العلمي)، وبدأ مسيرته في إحداث ثورات علمية في علوم الرياضيات والفيزياء والفلك.
لقد وضع نيوتن في تلك الفترة أسس علم (التفاضل والتكامل) في الرياضيات، وذلك بسنوات عدّة قبل الاكتشاف المستقلّ لها من قبل عالم الرياضيات الألماني (ليبنيتـز)، والتي نجم عنها فيما بعد اتهامات متعدّدة غير مثبتة ضدّ العالم الألماني بأنه سرق أفكار نيوتن.
وفي تلك المرحلة قام نيوتن بعمله الجبار في (توحيد قوانين الحركة) في الفيزياء، فلقد كان الفلكي الألماني (يوهانا كبلر) قد اكتشف ثلاثة قوانين تحكم حركة الكواكب حول الشمس، ولكن لم تكن لتلك القوانين أية علاقة أو ارتباط بأية حركة أخرى في الكون، وما هو أهمّ من ذلك أنها كانت قوانين عمــــــلية بحتة مُســــتنتجة من البيانات الفلكية الجمّة التي جمعها أســـتاذه الفلكي الدنمـــــــاركي (تايخو براها).
لقد أحـدث نيوتن انـقلاباً جذرياً في فهم الإنسان لطبيعة الحركة وقوانينها، فاكـتشف ثلاثة قوانين لحركة الأجسام، وعبر هذه القوانين برزت طبيعة الحركة وكيفيّة تأثـّر الأجسام بالقوى، واستطاع نيوتن أن يوضّح أن (قوانين كبلر) ليست إلا حـالات خـاصة لقـوانين نيوتن للحركة عندما يتم دمجها مع قانون آخر اكتشفه نيوتن في أيام الطاعون، وهو (قانون الجاذبية الكونية) الذي ينصّ على أن (كل جسم في الكون يجذب كل جسم آخر بقوة تتناسب طردياً مع ناتج ضرب كتلتيهما، وعكسياً مع مربّع المسافة بينهما).
ولما فتحت جامعة (كامبردج) أبوابها في عام 1667م بعد القضاء على وباء الطاعون، تقدّم نيوتن للعمل بها على وظيفة أكاديمية، والغريب أنه أخفى اكتشافاته فيما يتعلّق بقوانين (الحركة) وقانون (الجاذبية الكونية)، ولكن نتيجةً لاطّلاع الأكاديميين على أعماله في مجال الرياضيات أصبح نيوتن بروفيسوراً في الجامعة في عام 1669م لتبدأ المرحلة الثانية من حياته بكلّ ما تميزت به من عطاء متدفّق وإسهامات خالدة.
المرحلة الثانية
بدأ نيوتن أستاذيته بتدريس علم (البصريات)، وطرح نيوتن اكتشافاً جديداً في عام 1672م في أوّل بحث نشره في حياته وكان تحت عنوان (نظرية جديدة عن الضوء والألوان) ليضيف بذلك عملاً آخر إلى مجموعة من الأعمال العلمية التي أرست قواعد انطلاقات جذرية في مجالات المعرفة والعلوم والتقنية لم تكن لتخطر على بال.
لقد كان الاعتقاد السائد بين العلماء والفلاسفة ابتداءً من أرسطو أن الضوء الأبيض هو (وحدة فريدة أساسية)، ولكن نيوتن اقترح أن الضوء الأبيض هو (خليط من الأشعة)، وأجرى تجربته الشهيرة باستخدام (المنشور الزجاجي)؛ فإذا سقط عليه ضوء الشمس الأبيض خرجت منه سبعة ألوان مميزة، ومن هـــذا الاكتشاف عرف البشر لأوّل مرة تفسير ظاهرة (قــوس قزح) بعيداً عن الخرافات والأساطير والأمزجة.
لقد كان الفلكي البريطاني (إدموند هالي) هو الذي أقنع نيوتن بإخراج ذخيرته العلمية التي أسّسها في فترة اعتزاله أثناء أيام الطاعون، وتكفّل بمصاريف النشر، فخرجت تلك الإبداعات العبقرية إلى الساحة العلمية في عام 1687م في كتابه الجامع (الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية).
لقد جمع ذلك الكتاب كلّ ما هو معروف عن الحركة في الكون، ووحّد الظواهر الطبيعية المختلفة في إطار واحد خاضع للقوانين نفسها مما جعل عدداً من العلماء يشتكون لسنوات عديدة أن نيوتن لم يترك لهم شيئاً يشتغلون به، ووصف العالم الفرنسي (بيير دو لابلاس) هذه الحال بأسلوب حاذق عندما قال: (إن نيوتن كان محظوظاً مرتين؛ المرّة الأولى لأنه كان يملك قدرة لاكتشاف أساس الكون الفيزيائي، والمرة الثانية لأنه لا يمكن أن يكون له منافس أبداً نظراً لأنه لا يوجد إلا كون واحد يمكن اكتشافه).
المرحلة الثالثة
لم يحظ عالم بما حظي به نيوتن من التقدير والتكريم في حياته وبعد مماته، وجاءته شهادات التقدير من معظم العلماء المشهورين في زمانه، وبالرغم من ذلك نجد أن نيوتن، وهو في الخمسين من عمره وفي قمة عطائه وشهرته، يقرّر هجر الحياة الأكاديمية؛ فحياته لم تخل من المنغصات عبر الصراعات والأزمات النفسية إذْ إن نيوتن كان يمقت الجدال، ويتحاشى نزاعات الأقران، ولذلك كان يميل إلى حجب أعماله قدر الإمكان عن أعين المترصّدين والناقدين، ولذا نجده يكتب لأحد أصدقائه تحت ضغط المعارضة القاسية التي واجهته: (إنني أنوي عدم المشاركة مستقبلاً في أمور الفلسفة، ولذا فإنني أؤمّل أن لا تنزعج إذا وجدتني قد توقّفت عن أيّ عمل من ذلك النوع).
وهكذا راح نيوتن يبحث عن وظيفة تجلب له مردوداً مادياً أكبر، وتنأى به عن ساحات النقد والخلافات العلمية، فقبل في عام 1696م وظيفة مدير دار (سكّ النقود) في لندن، واستمرّ فيها حتى وفاته