في مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِ لَكَمَثَلِ النَّحْلَةِ أَكَلَتْ طَيِّبًا وَوَضَعَتْ طَيِّبًا
وَوَقَعَتْ فَلَمْ تَكْسِر ولم تُفْسِد .ْ
صححه الشيخ أحمد شاكر والشيخ الألباني .
ماذا في النحل من عبر ؟!
شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنحلة ، والتشبيه إما أن يكون
كليا أو جزئيا أو كل بكل أو جزء بجزء ، والصحيح أن التشبيه في الحديث
تشبيه كلي بكلي .. وليس تشبيه كل صفات المؤمن بصفات النحلة أو بعض أجزائه
ببعض أجزاء النحلة ..
ومعنى تشبيه الكلي بالكلي أي تشبيه النوع بالنوع من حيث النفع .. فتكون
كل الصفات المحمودة في النحلة موجودة في المؤمن ، وعدد منها الرسول صلى الله
عليه وسلم ما هو جدير بالتنبيه ، وترك للسامع بقية المقارنة والموازنة .
ولنبدأ بما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
حيث ذكر من أهم الصفات المحمودة للنحلة أنها :
تأكل الطيب
وتضع الطيب
وإذا وقعت على عود لم تكسره
ولم تفسد
ومجموع هذه الصفات تعتبر علامة فارقة في النحل دون غيره من الحشرات ،
فليس ثم من الحشرات ما ينفع نِتاجه مثل النحل .. وليس من الحشرات ما ينتقي
ما يقع عليه مثل النحل .. ورعي النحل للزهور وأعواد الورود وبساتين البراعم
رعي حنون ، فهي لا تهجم هجوم الجراد ، ولا تعيث عيث الزنابير ، كما أن رعيها
للزهور تلقيح لها لتثمر ، وتهييج للمياسم لتنتج ...
فالنحل لا يمتص إلا رحيق الأزهار الفواحة .. لذا كان أطيب العسل البري الجبلي
الذي ينتقي فيه النحل زهوره بنفسه لا بانتقاء الناس له ...
والعسل الخارج من بطنها من أطيب الإفرازات الحيوانية وأنفعها على الإطلاق
ولذلك امتدحه القرآن وامتن به الله تبارك وتعالى .
والنحل ليس من نوع الحشرات الذي يهيج ويفسد كالجراد والزنابير ، حتى
خلاياه يشيدها بعيدة عن مرمى البصر ومتناول الأيدي حتى لا يؤذي أحدا بها ...
والنحل بطبعه لا يلدغ إلا من آذاه .. وهو يسيح في كل مكان ، إذا رأى
حيوانا أو بشرا تحاشاه ، وليس كالزنابير التي قد تثور لأقل حركة ...
ووما لم ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من صفات النحل أنه يعمل ويجتهد ،
ويثابر طوال يومه في بناء خليته ، وتشييد مدينته ، والمحافظة على نسله ،
وأن له شجاعة وإقداما ، ويضحي بنفسه من أجل بني خليته ، ومن صفاته حب
العمل الجماعي .. وهذا لا يحتاج إلى شرح أو بيان ..
ومن صفات النحل المحمودة أنه لا يتبرم من العمل .. بل يعمل في صمت ،
ولا ينتظر منصبا أو مكانة في خليته .. بل يعمل وهو يعلم أن مصيره الموت ..
وفي عالم النحل صفات نبيلة يعلمها من تبحر في علم الحشرات ، وقد ضرب
لنا الرسول صلى الله عليه وسلم المثل في النحل فيما يعرفه عامة الناس
ليكن أقرب للفهم ، وأدنى للتأمل والتبصر والاقتداء ...
والآن ...!
كيف هي صفات المؤمن .. على ضوء تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له بالنحل ؟!
إن المؤمن طيب ...
فمعدن الإيمان في قلبه ينفي الخبث ويطرد الدنيء ...
فإذا طاب المؤمن وطاب معدنه صار محلا للطيبات .. وموئلا للجمائل ...
فلا ترى المؤمن يقبل إلا الطيب ..
كسبه طيب ..
ونفقته طيبة ..
وكلامه طيب ..
وعمله طيب ..
وعبادته طيبة ..
مطعمه طيب ..
ومشربه طيب ..
وملبسه طيب ..
فاستحق أن أن تقول له ولأخوانه الملائكة يوم الدين :
سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين .
فالجنة دار طيبة .. أعدت للطيبين ..
والمؤمن طيب .. لا يَقبل إلا طيبا ، ولا يُقبِل إلا على الطيب ..
وما يستودعه المؤمن عند الآخرين طيب .. مثل العسل الذي يضعه النحل
فيستفيد منه الناس ..
إذا أنجز عملا كان طيبا .. ينتفع به الخلق ..
وإذا علّم علما كان طيبا .. ينفع الناس ويمكث في الأرض .
وإذا أنتج شيئا كان إنتاجه من أطيب الطيبات .
المؤمن مثل النحل .. لا يقع على الجيف النتنة .. ليس كالذباب يحوم
حول النجاسات والقذارات ..
فالمؤمن إن رأى عيبا اصلحه أو خللا سده ..
إن رأى تقصيرا أكمله وجمله ..
لا يبحث عن أخطاء الآخرين .. ولا يجعلها هدفا لعمله ، فالنحل ينشد
الفائدة فقط ، ولا يضيع وقته في السفاسف ..
والمؤمن لا يتحسس أخطاء الناس ..
إن رأى تلك الأخطاء لا يجعلها مادة حياته .. وقبلة اهتمامه .. بل يمر عليها
ولا يقف .. كالنحل !
والنحل إذا وقع على العود لم يكسره ... لأنه خفيفٌ حِمله .. رشيق تنقُّله ..
فكذا المؤمن ..
إذا عالج أمرا .. وتناول مشكلا لم يكسر القضية ويشوهها .. بل يقف على
أعواد المشكلات وقوف النحل خفة ورشاقة ، ويعالج المشكل كما يعالج النحل
مص الرحيق من الأزهار وهو واقف على العود لا ينكسر به ، حتى إذا نال
بغيته ، وكلمت طِلبته قام عن العود وهو أكمل من ذي قبل ، فما من مشكلة
يتناولها المؤمن إلا ويخرج منها وقد نالت منه خيرا ، ولم تر منه نقصا .
والنحل لا يُفسد في ترحاله وتنقله ..
وكذا المؤمن .. يتجول في كل الأمور والقضايا نافعا منتفعا ، يفيد الناس
عونا ، ويستفيد منه مثوبة وأجرا ..
والنحل صبور .. وكذلك المؤمن ... جلد قوي .. ذو عزيمة وشكيمة ، يغالب
الأمور ولا تغلبه ، يصارعها ولا تصرعه ..
يحب الجماعة كما النحل ..
يتقوى بإخوانه .. ويستعين بهم .. يتعزى بسواعد القائمين على الخير مثله
ويرى فيهم أمل الأمة المنشود .. فيعمل معهم ، لا يكل ولا يمل .. مثلما
النحل ..
المؤمن يضحي كالنحل ..
بنفسه ..
بماله ..
بوقته ..
بجهده ..
بمتعته ..
حتى تبقى جماعته قوية منيعة ..
ومن صفات النحل أنه لا يؤذي إلا من هجم عليه وآذاه في سعيه أو خرب عليه
خليته ..
وعدا ذلك فهو ماض في عمله .. دئوب في سعيه لا يلوي على شيء .. يتعالى
عن السفاسف .. لا يقع على الجيف .. ولا يحب النتن من الأشياء ..
فكذلك المؤمن ..
مسالم .. مطمئن ..
ماض في دربه ..
يعبد ربه ..
يدعو إلى دينه ..
لا يؤذي الذر .. كما قال الحسن .
إن رأى المحسنين أحسن معهم ، وإن رأى أهل العلم سار في ركابهم ،
وإن رأى أهل الجهاد جاهد معهم وآزرهم ، وإن رأى المحتسبين احتسب معهم ،
وما من خير تدركه أطرافه إلا سعى إليه قدر طاقته ..
فإن رامه أحد بأذية كشر عن أنيابه .. وأبدى له شراسة أسود الشرى ...
فليس المؤمن بالخِب ولا الخِب ينال منه .
يبقى أن نقول ..
إن بعض بني البشر يكرهون النحل .. ولا يحبون العسل .. فغالب أولئك
مرضى عركتهم السقام ..
ألسنتهم أصابها مرار المرض ، فصار مذاق العسل عندهم حنظلا ، رأت نفوسهم
صفة الحشرة في كيان النحلة ولم تر فوائده فنشأت على العداوة لها ..
وكذا بعض بني البشر مع المؤمنين ..
بصائرهم منتكسة .. فصاروا يرون الخير شرا ، والحق باطلا ، والنور ظلمة ،
وصار مذاق الإيمان في ألسنتهم علقما ..
فما لنا من حيلة مع أولئك المرضى إلا أن يشفيهم الله حتى يبصروا حقيقة النحل
وصريح الإيمان !
هذا درس واحد من حديث واحد عن النبي صلىالله عليه وسلم ، ولو تتبعنا ما
قيل في النحل مما ورد في الكتاب والسنة لطال المقام .. ولكن في المثال
الواحد غنية عن ألف شاهد ..