أمسك عليك لسانك .
اللسان سلاح ذو حدين إما لك وإما عليك، وقد قال الله تعالى: “يَا أَيهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً” ، وقال عز من قائل: “وَقُل لعِبَادِي يَقُولُواْ التِي هِيَ أَحْسَنُ إِن الشيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِن الشيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مبِيناً”.
وكان صلى الله عليه وسلم طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، وإذا تكلم يتكلم بجوامع الكلام، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، ولن يجد المسلم ما يفعله إلا أن يصمت لو أنه تذكر مع كل كلمة يقولها رقابة الله عز وجل التي لا تتركه لحظة من اللحظات، ولا تغفل عنه في حال من الأحوال، يراقب ما يصدر عنه من أقوال، وما يخرج من فمه من كلمات.
لك أو عليك
سيكثر المسلم من الصمت لو تذكر أن كل قول محسوب له أو محسوب عليه، وسيمتنع المسلم عن كثير من الكلام لو تذكر أن كل كلمة مرصودة في سجل أعماله: “مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ”، يسجله الملكان في الدنيا ويوم القيامة ينكشف الحساب ويكون الجزاء، “يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ”.
أكثر ما نصح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين أن يحفظوا ألسنتهم، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه،أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن منك ، فإن استقمت استقمنا ، وإن اعوججت اعوججنا)، ولذا قال العلماء أنه يجب على كل مسلم أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإمساك عنه، لأن الكلام في غير مصلحة قد يجر إلى حرام أو مكروه، وهو غالب في العادة، وروت أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله)، واقرأ إن شئت في صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)، وهو نص صريح في أنه لا ينبغي للمسلم أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيراً، وظهرت له مصلحته، ومتى شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم ، وقد قال الإِمام الشافعي رحمه الله: إذا أراد الكلام فعليه أن يفكر قبل كلامه، فإن ظهرت المصلحة تكلم، وإن شك لم يتكلم حتى تظهر.
خطر اللسان
ومما يفيد بيان خطر اللسان وأنه إذا لم يحفظ من المعاصي والشرور كان سببا في هلاك الأعضاء كلها وفي كب صاحبه على وجهه في النار ما رواه الترمذي عن معاذ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يُدخلني الجنة ويُباعدني من النار، قال: (لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنة، وَالصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم تلا: “تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِما رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” حتى بلغ “يَعْمَلُونَ” ، ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعمودِهِ وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا رسول الله ، قال: رأس الأمر: الإسلام، وعموده: الصلاة، وذروة سنامه: الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كلهُ؟ قلت: بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسانه ثم قال: كف عليك هذا، قلت: يا رسول الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائِد ألسنتهم؟).
والكلمة الواحدة قد ترفع وقد تخفض، وورد في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً يرفع الله تعالى بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم).
ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف على المسلم إلا من لسانه وفرجه، ويروي أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله وحسن الخلق)، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال: (الفم والفرج)، وقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجة ،عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ، حدثني بأمر أعتصم به، قال: (قل ربي الله ثم استقم) قلت: يا رسول الله ، ما أخوف ما يخاف عليّ؟ ، فأخذ بلسان نفسه ثم قال: (هذا).
ترجمان القلب
واللسان هو ترجمان القلب، ومظهر ما بداخله، وينضح بما فيه، ويربط رسولنا الكريم استقامة القلب باستقامة اللسان، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)، وفي الترمذي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تعالى قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله تعالى القلب القاسي)، وفيه أيضا، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من وقاه الله تعالى شر ما بين لَحْيَيْهِ ، وشر ما بين رجليه دخل الجنة).
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ضبط المؤمن للسانه ومحافظته عليه وسيلة لضمان الجنة بإذن الله، وقد روى البخاري، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة)، والنجاة كل النجاة في أن يمسك المسلم لسانه فلا يؤذي به لا نفسه ولا غيره، وقد سأل عقبة بن عامر رضي الله عنه رسول الله: ما النجاة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: (أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك).
المسلم الأفضل
والمسلم الأفضل هو الذي لا يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فعن أبي موسى الأشعري قال: قلت يا رسول الله، أي المسلمين أفضل؟ ، قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) ، وفي مسند أحمد عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله عز وجل يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه، قالوا وما بوائقه يا نبي الله، قال غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يترك خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله عز وجل لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث).
والآثار عن السلف في هذا الباب كثيرة، وكان خوفهم رضوان الله عليهم من آفات اللسان عظيماً، وفي موطأ مالك رضي الله عنه أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول ألا تريحون الكتاب، (تقصد الكرام الكاتبين)، وحدث مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب، دخل على أبي بكر الصديق وهو يجبذ لسانه فقال له عمر: مه غفر الله لك. فقال أبو بكر (إن هذا أوردني الموارد)، وكان الفاروق عمر رضي الله عنه يقول: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به)، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك قل خيرا تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم)، وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (ما من شيء أحق بالسجن من اللسان).
وقال غيره: (مثل اللسان مثل السبع إن لم توثقه عدا عليك)، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: أنصف أذنيك من فيك، فإنما جُعلت أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تكلم به).
وقيل أن قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي اجتمعا، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن آدم من العيوب؟ ، فقال: (هي أكثر من أن تُحصى، والذي أحصيته ثمانية آلاف عيب، ووجدت خصلة إن استعملتها سترت العيوبَ كلها، قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله لصاحبه الربيع: (يا ربيع، لا تتكلم فيما لا يعنيك، فإنك إذا تكلمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها).
وقال أبو القاسم القُشيري رحمه الله في رسالته المشهورة: (الصمت سلامة وهو الأصل، والسكوت في وقته صفة الرجال؛ كما أن النطق في موضعه أشرف الخصال).
جريدة الخليج .