كم من هرتزل في زمن العبيد.. فأين السلطان عبدالحميد
د. خالد هنداوي
مع هذه الأيام والظروف العصيبة التي تمر بقضية المسلمين الأولى والمركزية فلسطين ومع تصاعد وتيرة الأحداث التي عصفت بالمسجد الإبراهيمي ومسجد بلال وتهويدهما في الخليل، وإحياء بيت الخراب اليهودي بافتتاحه بجوار المسجد الأقصى في القدس والتهويد المتعمد المستمر لهذه المدينة المقدسة من كل الجوانب، ومع يوم الغضب الإسلامي الذي هب العرب والمسلمون فيه للتعبير عن مشاعرهم الفياضة بالحزن والألم والمصممة على عدم نسيان هذه الدرة المغتصبة من بلاد الإسلام رغم تخاذل معظم حكامهم إزاءها فإنه يحسن بنا أن نتذكر ونذكر بالمواقف العزيزة المجيدة التي كان يقفها العثمانيون الأتراك المسلمون دون مواربة تجاه فلسطين، التي يحاول الخطاب التركي الحالي غالباً شعباً وحكومة أن يقتبس منها بعض الأنوار التي تمثلت في موقف رئيس الوزراء رجب أردوغان قبل مؤتمر دافوس وبعده أمام الصلف والغطرسة الإسرائيلية التي قررت أن تهزأ بالقانون الدولي وأن تصر على البقاء ظلماً وعدواناً فارسة الميدان، وكما يقول الأستاذ زياد أبو غنيمة في كتابه جوانب مضيئة في تاريخ العثمانيين "ص 44"، مبيناً أنهم دفعوا ثمناً باهظاً بسبب موقفهم الصلب من فلسطين في وجه المطامع الصهيونية، حيث سجلوا موقفاً شامخاً وهم في أحرج الظروف هذا الموقف الذي يجب أن يفتخر به كل عربي ومسلم عموماً والفلسطينيون بوجه خاص، سيما موقف السلطان عبدالحميد الثاني في ذلك.
إن الخلافة العثمانية قد تسامحت مع اليهود الذين هاجروا إلى بلادها هرباً من الظلم الذي قامت به محاكم التفتيش في الأندلس وطمعاً في العيش في كنف المسلمين الذين لم يجد اليهود أرحم منهم، وقد لاحظت الدولة العثمانية محاولات اليهود الاستيطان في فلسطين والهجرة من تركيا إليها فقيّدت ذهابهم إلى القدس ويافا بصفة حجاج أو سياح فقط ولفترة لا تتجاوز 31 يوماً مع الكتابة على جواز كل مسافر منهم أنه لا تجوز له الإقامة في فلسطين، وكما يذكر الدكتور أحمد النعيمي في كتابه "اليهود والدولة العثمانية ص 63" أن الوالي المتصرف في شؤون القدس كان يمنعهم من الإقامة، ولكن موضوع هجرتهم إلى فلسطين إنما تبلور منذ أصدر مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل كتابه الدولة اليهودية عام 1895، حيث كتب بصراحة: إننا لا نريد أن نذهب إلى فلسطين بأساليب خداعة، بل نريد أن نستقر فيها ونأخذ ترخيصاً قانونياً تركياً بالدخول إليها وسوف نجلب لها منافع مالية لقاء ذلك، كما عمل على أخذ موافقة الدول الكبرى لاستيطان اليهود في فلسطين.
ولكن السلطان عبدالحميد الثاني المفترى عليه كان مدركاً سياسة الحركة الصهيونية وكان من أوامره لمجلس الوزراء في السياسة الخارجية أن يقنعوا الدول الكبرى بعدم مساندة هذه الحركة الخطيرة بل وأمر بوضع العراقيل لعدم إدخال اليهود من جديد إلى الدولة العثمانية، ومع قيام مؤتمر بازل في سويسرا لتأكيد الهدف الصهيوني فإن العثمانيين لم يعطوا أي تشجيع لأفكار هرتزل بل قام السلطان عبدالحميد بنفسه باستبدال سكرتير له في القصر بمتصرف القدس من جهة وأمر برصد التحركات الصهيونية ووضع ميزانية خاصة للقيام بالدعاية ضدها، كما نبه بنفسه وسياسته تجاه فلسطين السفراء العثمانيين في واشنطن وبرلين وفيينا ولندن وباريس أن يتعقبوا النشاطات الصهيونية، كما ذكر الدكتور محمد حرب في كتابه العثمانيون في التاريخ "ص 38" ولكن هرتزل أخذ يستغل العجز الاقتصادي الذي ألم بالدولة فكتب في مذكراته: يجب علينا أن ننفق عشرين مليون ليرة تركية لإصلاح أوضاع تركيا، مليونين ثمناً لفلسطين والباقي لتسديد الديون، ثم تمويل السلطان بقروض جديدة وإعطائه مليوناً خاصاً له، وقال: إنه بقدر ما تعطينا الدولة قسما أكبر من فلسطين بقدر ما نقدم لها من تضحيات، ولقد زار هرتزل القسطنطينية عام 1896 بمرافقة نيولنسكي الذي كان صديقاً للسلطان عبدالحميد والتقيا مع ابن الصدر الأعظم ليأخذ لهما موعداً عند والده ولكن هذا الابن المجيد رفض وقال لهما: إن احتلال اليهود لفلسطين يعتبر إساءة لمشاعر المسلمين فأخفقا كما باءت جهود هرتزل مع وزير الخارجية العثماني بالإخفاق أيضاً، وهنا نقل نيولنسكي الأمر إلى السلطان سائلاً: هل يمكن لليهود أن يستوطنوا في فلسطين، قال لماذا قال: لأنها تعتبر المهد الأول لهم وهم يرغبون في العودة إليها، فرد السلطان: إنها لا تعتبر مهداً لهم وحدهم وإنما هي مهد لكافة الأديان، قال نيولنسكي: إنهم يرغبون في موافقتكم ثم بعث السلطان إليه بقوله: "انصح صديقك هرتزل ألا يتخذ خطوات جديدة حول هذا الموضوع لأني لا أستطيع أن أتنازل عن شبر واحد من الأراضي المقدسة لأنها ليست ملكي، بل هي ملك شعبي وقد قاتل أسلافي من أجلها ورووها بدمائهم فليحتفظ اليهود بملايينهم وإنني لا أوافق على تشريح جثتي وأنا على قيد الحياة".
ومع كل ذلك فإن هرتزل لم ييأس وهكذا بالعمل وصل ومن بعده من الصهاينة إلى مبتغاهم، فحاول مع الإمبراطور وليام الثاني الألماني الذي كان صديقاً للسلطان عبدالحميد وحليفاً له لكن وليام رفض ذلك، وأجاب هرتزل: إنه يخشى غضب السلطان كما قدم اليهود فكرتهم إلى المستشار الألماني بسمارك فرد عليهم: إنها فكرة حمقاء، فقالوا له: إن العنصر الحضاري الذي يمكن أن يستوطن فلسطين إنما هم اليهود فسخر منهم.
ولا شك أن الإجابة التي صفع بها عبدالحميد، زعيم الصهاينة، يحق لها أن تسجل بماء الذهب في عصر لم نعد نشهد من حكامنا رغم ما زودهم الله به من ثروات وطاقات شعبية ومواقع استراتيجية من يريد أن يتجاوز حاجز الخوف ويكون مع الخالدين، وهكذا فإن هذا السلطان الخالد الذي نازل هرتزل حتى أثبته وجره إلى اليأس جعله يصب غضبه عليه بالشتم والقدح وذلك عندما كتب كما ينقل د. النعيمي "ص 146" إن اسم عبدالحميد رمز لمجموعة من أحط الخبثاء الذين هم أشبه باللصوص والأفاعي السامة، إنه مجرم عريق ومن جهة أخرى فقد صرح بأنه لا فائدة من تركيا إلا إذا تغيرت حالتها السياسية - تماماً كما يقول الأعداء الخارجيون والعلمانيون فيها اليوم - أو تم زجها في حروب أو مشكلات دولية أو بالطريقين معاً، وهو ما فعله الصهاينة إذ عملوا على تدعيم الأعداء عليها من الأرمن والحركة البلقانية القومية والحركة الكردية القومية وهكذا مثلما يحدث من استعداءات مماثلة الآن على أنه يجب علينا أن نفهم ويفهم الحاكمون العرب والمسلمون اليوم ما كان يرمي إليه عبدالحميد من هذه المواجهة لأجل فلسطين وذلك عندما يكتب في مذكراته: إن هرتزل لن يقنعني بأفكاره أي السطحية، إن اليهود لن يكتفوا بالزراعة بل يريدون تشكيل حكومة وإنني أدرك مطامعهم في فلسطين ولن أحقق أمانيهم، ولذلك رفض بيع الأراضي والعقارات لهم ومنع هجرتهم، أما من وجه آخر وهو مهم جداً، فإن السلطان كان يرى أنه من الضروري عدم توطينهم بفلسطين كي يحتفظ العنصر العربي بتفوقه الطبيعي، يقول في مذكراته "ص 79": إننا إذا أردنا أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، فعلينا أن نصرف النظر عن توطين اليهود لأنهم يتملكون الأرض بوقت قصير ونكون نحن قد حكمنا على إخواننا في الدين بالموت المحتم، وأما عن القدس بوجه خاص التي كان هرتزل يقول عنها: كلما تذكرتك كنت حزيناً، سأزيل كل ما هو غير مقدس فيك، وسأحرق كل الآثار وابني القدس الجديدة، فلنتأمل بما أزيل من الآثار العربية وبحريق الأقصى عام 1969، ولنتأمل قول ابن غوريون سابقاً وبيريز الآن وما قاله قادتهم: لا قيمة لفلسطين دون القدس، القدس هي العاصمة الأبدية ل"إسرائيل"، لنتأمل ذلك وندرك بالمقابل موقف السلطان عبدالحميد تجاهها إنه يقول: لماذا نترك القدس، إنها أرضنا المقدسة في زمان وستبقى كذلك، لابد أن تظل القدس لنا، وهذا هو فهم من يعرفون سنة التدافع ويجيدون إدارة الصراع على الدوام، فإنه بعد وفاة هرتزل وقيام المؤتمر الصهيوني السابع عام 1904 قام ديفيد ولفنسون باستئناف موضوع الاستيطان مع السلطان عبدالحميد، ولكن لم يكن أي تغيير للسياسة العثمانية تجاه فلسطين، فرحم الله هذا السلطان المجاهد الذي أوجز الكلام عنه جمال الدين الأفغاني بقوله: رأيته يعلم دقائق السياسة ومرامي الدول الغربية وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك ولو وزن بأربعة من نوابغ الرجال لرجحهم ذكاء ودهاء أقول:
هـم الرجال وعيب أن يقــال لمن **لم يتصف بمعاني وصفهم رجل
وإن اليهود هم اليهود، فاعتبروا يا أولي الأبصار.